هكذا يجلس الغرباء ..
طاولة بيضاء عارية ذات وجه مخطط كبصمة ضخمة .
المكان مكتض ، لكن تبدو الطاولة منعزلة وسط ذلك الطوفان
البشري الكبير.
فتاة آسوية تجلس وحيدة تعد أصابعها النحيلة ببرود يجمد
كل الأشياء حولها.
شعرها حالك مسترتسل حتى كتفيها وعلى رأسها تلف شريطا أبيضا
رفيعا من الحرير .
عيناها صغيرتان تسيلان بانحناءة حادة إلى الخلف، ووجهها
دائري مخبوز بالكاد تنتأ منه أرنبة أنفها الصغيرة. ترتدي قميصا أبيضا من الكتان ،
وتنورة زرقاء داكنة قصيرة تكشف عن ساقين نحيلين يتقاطعان عند القدم المحفوظة في
حذاء أسود أنيق.
ورغم كل هذا الترتيب والتفاصيل المصفوفة بعناية بالغة ، توشحها
هالة جنائزية ثقيلة.
صوت كعب يطرق الأرض يقترب منها حثيثا ، ترفع عيناها
لتتأمل مزيج الوجوه الكثيرة المبعثرة أمامها كخرز طوق مقطوع ، وتنفرج شفتها
الدقيقة عن ابتسامة باردة.
فتاتان تقتربان منها ، تبدوان كنسخة مكررة عنها ، ذات
الملامح والتفاصيل ، تتوقفان خلفها وتعتدل هي لتشد ظهرها على الكرسي الأحمر.
تمسك الفتاة الواقفة على اليمين بجهاز آيباد أنيق ،
وتمده امام الوجوه الثلاثة لتنعس على شاشته الصغيرة ، وتلمس الأخرى أيقونة التصوير
لتنطبع الصورة الثلاثية المكررة على وجه الشاشة.
تدني الجالسة تلك الصورة منها وتتآملها بوجه خال من
التعابير، وعينان منطفئة البريق.
تختطف الواقفة على يمينها الجاهز وتطلق الأخرى ضحكة
هامسة وتمضيان كما جاءتا حثيثا دون التفات، وتبتعدان حتى تضيعان في ازدحام الوجوه
الكثيرة الغريبة.
تعود وحيدة تعد أصابعها ورأسها محني بلا حياة.
لاشيء يتحرك سوى الأصابع النخيفة ، وكل الأشياء مجمدة .
تهمي الأرض من حولها وتبتلع كل شيء ، وتبقى هي معلقة في
الفراغ.
فتاة آسوية غريبة تعد أصابعها وتتمدد كخيوط تعيد نسج
تفاصيل وجه حبيب ... ربما وجه الوطن!.
طفول زهران
13 مارس 2013